كيف أصبح أصح كتاب بعد كتاب الله؟

 

قد أجمع العلماء على أنَّ صحيح البخاري ومسلم أصح الكتب بعد القرآن الكريم، حكاهُ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- [1] وغيره مِن أهل العلم.

والأحاديث التي أوردها البخاري ومسلم صحيحة قبل أن يُخلَق البخاري ومسلم، فقد رواها الصحابة عن النبي ﷺ للتابعين وعملوا بها وقضوا بها بين الناس ...وهكذا، وهي مُدوَّنة مع غيرها مِن الأحاديث والآثار في كتب أهل العلم مِن شيوخ البخاري ومسلم ومَن فوقهم، ومُتداولة بين أهل العلم في غير الكتب، وغاية ما فعله البخاري ومسلم هو انتخابهم لأصح المرويات بمراعاة نهجٍ حديثيٍّ بديعٍ شَهِدَ عليه بالضبطِ والإتقان علماءُ الإسلام قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل؛ فلهذه الأوجه وغيرها صار صحيح البخاري ومسلم أصحّ الكتب بعد كتاب الله عز وجل.

ووجه مقارنة أهل العلم للصحيحين بالقرآن الكريم في الصِّحة: اشتراك القرآن والسنة في الوحي والتشريع، فالقرآن هو الوحي الأول وهو كلام الله تعالى، وسنة النبي ﷺ هي الوحي الثاني، وهي الحكمة والبيان المُنزَّل مِن عند الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44] وقال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: 113] وقال سبحانه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4].

وهو القدوة الذي أمرنا ربنا بالاقتداء بسنته: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

وجعل طاعتهُ طاعةً له سبحانه، ومعصيتهُ معصيةً له: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80] ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: 61].

فالقرآن والسنة الصحيحة كلاهما مِن عند الله، وكلاهما قد تكفَّل ربُّ العالمين بحفظه، بل بحفظِ كل ما يُحفَظ به الدِّين مِن اللغة وغيرِها، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] قال العلامة عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله تعالى-: " والذكر يتناول السنة بمعناه، إن لم يتناولها بلفظه؛ بل يتناول العربية وكلّ ما يتوقّف عليه معرفة الحق. فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجةُ قائمةً والهدايةُ دائمةً إلى يوم القيامة " [2].

فلمَّا كانت السنة حجَّةً شرعية بالإجماع القطعي، ومِن المعلوم مِن الدِّين بالضرورة، صار مُنكرها كافرًا مرتدًّا عن الإسلام بإجماع العلماء [3].

كتبه/

محمد بن عبدالحفيظ



[1] مجموع الفتاوى (20 / 320).

[2] التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (10/ 79) ضمن آثار المعلمي، دار عالم الفوائد، ط2-1434هـ.

[3] انظر: [الرسالة للشافعي (ص 460) ت: أحمد شاكر] و [الشريعة للآجري (1 / 412) ت: د. عبد الله الدميجي، دار الوطن، ط: 2 1420هـ/1999م] و [والإحكام في أصول الأحكام (2 / 80) ت: أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة].




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ثلاث وقفات مهمة مع الحرب في السودان

تهافت المنهج الإخواني والسروري مع أحداث غزة